تركيا بين الوهم والحقيقة

تركيا بين الوهم والحقيقة

كاريكاتير: عماد السنوني

الأحد 4 يونيو 2023 - 17:22

حتى الخير والإحسان لم يجمع أبدا العرب بتركيا، لا قديما ولا حديثا. ففي ثوبها القديم “الإمبراطورية العثمانية”، لم تكن تركيا سوى دولة احتلال طويل الأمد، استعبد العرب ونكّل بهم وسرق خيراتهم ومنعهم من التطور إلى دول متحضرة، من العراق إلى الجزائر.

ومن بلادة العرب لم يعتبروا ذلك احتلالا، وإنما وحدةً لأمة الإسلام. وفي النهاية، تسببت هذه المعشوقة في ضياع فلسطين، التي حال الاحتلال العثماني دون تسميتها دولة مستقلة قبل نهاية الحرب العالمية الأولى، منفصلة عن الأردن ومصر، ولو عاشت سنة واحدة تحت اسم المملكة الفلسطينية أو الجمهورية الفلسطينية لكانت تحت الانتداب البريطاني بهذه الصفة لتستقل مع ما استقل من دول الشام.

جاء كمال أتاتورك وغيّر وجه تركيا وقلَبها جذريا، غيّر اسمها ومحا دينها وعادات أهلها وقوانينها وحروف لغتها، ووضع لها دستورا يقدس العلمانية ويجرّم تدخل الدين في السياسة. وأضحت تركيا كأنها دولة خُلقت من الرحم الأوروبي. وبقي هذا الوضع إلى اليوم. وحين جاء أردوغان بحزبه “الإخواني”، فإنه لم يستطع تغيير علمانية تركيا، وكل ما ستطاع هو إبعاد الجيش عن السلطة وزرْع النبتة الديمقراطية الغائبة في عهد الجنرالات الأتراك.

جن جنون العرب المسلمين والمتأسلمين فرحا بنجاح أردوغان واستمراره في الحكم، وانساق معهم القوميون اعتقادا منهم بموقف جديد من فلسطين، مؤكدين بلادة سياسية وحضارية عميقة، ناسين أن أردوغان يعرف نقطة ضعف الأتراك فطلع عليهم بحزب جديد يروي العطش النوستالجي عند الشعب، ولو بالقشور، وهو يعرف أن هذا الشعب مسلم حتى النخاع لولا الدستور والقوانين العلمانية الوضعية، ويحتاج إلى زمن طويل ليسترجع الجانب الديني الشرعي للأسرة على الأقل. (استطاع أن يعطي الحرية للأتراك في عقد الزواج عند رجل دين أو عند رئيس البلدية أو الموظف المفوض في ذلك، دون إجبار على أي اختيار)، فاستغل ذلك بذكاء واحتل المشهد السياسي إلى اليوم.

ولمعلومات هؤلاء العاشقين لأردوغان وحزبه، نفتح عيونكم على تركيا العلمانية التي تجهلونها أو تتجاهلونها: ليس هناك تدخل للدين في الأحوال الشخصية، طلاق، زواج، إرث، شهادة، عدول، قاصرة للزواج، امرأة للضرب، أبناء طائعون مرضيون، إلى غير ذلك. كما أن المظهر الديني غير إجباري: الصوم، عيد الأضحى، منع حضور الدين القسري في الإعلام، مكبرات الصوت غير القانونية إلى غير ذلك. كما أن حرية العقيدة يضمنها الدستور، لذلك فالأتراك لا يُخفون إلحادهم أو بوذيتهم أو نصرانيتهم أو أي ممارسة دينية أو لا دينية، وحتى المثلية لا تحاربها الدولة وإنما يحاربها الأشخاص بشكل فردي أكثر منه جماعي. وحين تزور تركيا لا تفرق بينها وبين أي دولة أوروبية، من حيث الحرب على الفساد بجميع أنواعه والخضوع للقانون واحترامه، من قانون السير إلى انحراف الناس أشخاصا أو جماعات، في الإدارة والبيت والشارع.

والطامة الكبرى لهؤلاء العاشقين العرب هي علاقة تركيا بإسرائيل، التي توجها البلَدان بسفارات رسمية وعلاقات قنصلية واضحة وتعاون عسكري لا يخفى على العين. وتذكروا كيف استقبلت تركيا الرئيس الإسرائيلي، كيف حضر البروتوكول الكامل لزيارة رئيس دولة، وكيف استقبلت تركيا أهبل الجزائر، حيث حملوه كمتاع منبوذ من المطار إلى أردوغان، الذي نافقه مدة قصيرة من الزمن ليخفيَه رجال البروتوكول عن الأنظار. ولم يراع أردوغان في ذلك الدين والملح والطعام المشترك، و300 سنة من “الرعاية” لأيالة الجزائر.

بين عرب أعمتهم العاطفة الدينية وأتراك مفتوحي البصر والبصيرة، براغماتيين إلى الحد الذي لا يُعلون فيه أي مقدس على قضاياهم الوطنية، ولو بجرح ذكرى أمة إسلام العثمانيين، من العراق إلى الجزائر؛ وبين عرب مستلبين بالرابط الديني، حتى ولو لم تبْق منه حتى شعرة معاوية، يأتي حزب مغربي يفتخر بتشابه أسماء الحزبين والاتجاه السني، واقفا عند ويل للمصلين. ولو استطاع أن يحكم المغرب خلال ولايتين دون استغلال الدين بشكل بليد، لكان المغرب على مسافة لا بأس بها من تركيا، القوة الاقتصادية والعسكرية والحضارية، الحاضرة مع الأمم العشرين الأولى. ونقولها في الأخير كمسك للختام: “بزاف عليكم تركيا”.

اشترك في النشرة البريدية لتصلك آخر الأخبار
Loading...
Loading...
Loading...
تعليقات الزوار 0
اخر الأخبار
صوة وصورة