
صورة: هسبريس
جانب من ذاكرة المقاومة المغربية للاحتلال يسعى إلى إماطة اللثام عنه وكشف تفاصيل جديدة حوله كتاب جديد للصحافي والباحث عبد السلام الزكريتي حول والده، الأب الروحي لثورة اكزناية، المقاوم المُغتال الحسن بن حمّوش الزكريتي.
والحسن بن حموش الزكريتي كان من الأسماء التي خصها الملك محمد الخامس بالذكر في خطاب 20 غشت 1956، سنة الاستقلال، بمناسبة الذكرى الأولى لـ”ثورة الملك والشعب”، إلى جانب كل من علال بن عبد الله، محمد الزرقطوني، أحمد الراشدي، حمان الفطواكي، محمد السلاوي، عباس المسعدي وإبراهيم الروداني.
وفضلا عن تقديم مقاومة قبائل اكزناية للاستعمار الفرنسي، من خلال شخصية الحسن بن حمّوش الزكريتي ومرافقيه، وبعض ملامح مقاومة محمد بن عبد الكريم الخطابي للاستعمار الإسباني، التي شارك فيها المقاوم، يميط هذا المؤلف اللثام عن عدد من الأحداث والشخصيات المقاومة للاحتلال، النسائية والذكورية، التي لم تنتبه إليها كتابات تاريخية، وأهملتها أخرى.
كما يناقش الكتاب في عدد من محطاته، تقديما ومتنا، مسألة تزوير وقائع تاريخية في بعض الكتابات عن مرحلة جيش التحرير، لإثبات زعامة أو بطولة، لم تحدث بالصيغة المقدمة أو مختلقة تماما، مع التشبث بقدرة البحث التاريخي، وعمل الباحثين على تصحيح الأخطاء المدونة بسوء نية وبحسنها أيضا.
كما تأسف الكتاب لكون “العديد من حاملي بطاقة (مقاوم) لم تكن لهم علاقة بالمقاومة في المدن أو بالأرياف أو بجيش التحرير، مما جعل بعضهم يحصل على امتيازات اجتماعية واقتصادية فاقت كل تصور، بينما العديد من الذين قاوموا وجاهدوا حقا في الجبال والأرياف تعرضوا للتهميش والحرمان، بل منهم من تعرض لتعسفات وتجاوزات حقوقية من قِبل السلطة مع بداية الاستقلال”.
ومن بين ما ورد في الكتاب تسجيل الصحافي والكاتب ابن سنة 1938، والحاصل على وسامين ملكيين للاستحقاق الوطني من الدرجة الأولى والدرجة الممتازة، أن “من المحزن أن تعاني منطقة الريف لعقود طويلة من الإهمال والتهميش من حيث البنيات التحتية والتجهيزات الأساسية (…) ومن قصور في دعم الأنشطة الفلاحية والاستثمار، وأن يعاني أبناؤها من البطالة المزمنة، وهي التي قدم أبناؤها تضحيات غالية، وارتوت أرضُها بدماء الشهداء؛ في سبيل تحرير المغرب من قبضة الاستعمار”.
ويشهد ابن المقاوم الراحل على ليلة تسميم أبيه، بعدما زاره مجهولان قالا إنهما قدما من مدينة طنجة “من باب محبة المجاهدين”، وأهدياه مذياعا، وسلماه مساهمة مالية بقيمة 3000 بْسِّيطَة، وأمضيا ليلتهما في ضيافته، ثم أقيمت صلاة الصبح بإمامة الزكريتي، ليفطروا، ويرحلا، وبعد ذلك بساعة بدأ المقاوم يحس بألم في بطنه، وزادت حدته، ثم رافقه الغثيان، لتفيض روحه عند غروب الشمس. وفاة أكد الطبيب الذي فحصه أنها ليست طبيعية، بل نتيجة تسمم حاد شديد الفعالية.
في محطات أخرى من كتاب “الشهيد الحسن بن حمّوش الزكريتي – الأب الروحي لثورة اكزناية أحد صنّاع ملحمة (مثلث الموت)”، يتحدث المؤلِّف عن شخصية أبيه القائد الحامل لهموم القبيلة والأمة، مشيرا إلى أنه “بالنظر لشخصيته القوية كان من الطبيعي أن يكون له “خصوم” في الرأي (وليس أعداء) داخل منظومة التأسيس لجيش التحرير”.
ومن بين تحفظات المقاوم الفقيد، التي سلط الكتاب الضوء عليها، رفضه لفظة “حرب العصابات”، التي “كان يعتبرها مهينة، حيث لم يستسغ أن يُنعت المجاهدون بـ”العصابة”، وهو العارف بالمصطلحات ومعانيها ودلالاتها، وأدبيات الجهاد والدفاع عن حوزة الوطن”، علما أنه كان “يؤمن بمشروع كبير هو تأسيس جيش منظم ومسلح، هو الذي عاش فصول حرب الريف بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي، وكانت هذه التجربة مصدر إلهام له وأنارت فكره”.
كما أنه كان رافضا للتخطيط “من قبل وافدين على المنطقة بطموحات سياسية، غير مبالين بالرهانات الاجتماعية وغير واعين بخطورتها، إذ إن المجاهدين سيكونون مضطرين للقتال في جبهات قريبة جدا من عائلاتهم وأسرهم مع ما يحمل ذلك من مخاطر على مصير الأقارب”.
وسجل الكاتب أن الحسن بن حموش الزكريتي كان “ضحية تبنيه لمشروع كفاحي يتعارض مع طموحات سياسية للحركة الوطنية، وأدى إلى وفاته في ظروف غامضة توحي بالاغتيال، مثلما كان عباس المسعدي ضحية لطموحاته السياسية وأسلوبه الثوري وتم اغتياله أيضا، وشاءت الأقدار أن يرقدا إلى الأبد، بعد نقل رفاتهما، في مقبرة الشهداء بأجدير”.
وقبل الحديث عن نقل أبنائه جثمانه سرا إلى أجدير، تحدث الكاتب عن المشيعين الكثيرين للمقاوم الراحل، الذين كانت من بينهم نساء فقيرات متقدمات في السن، وعن إطلاق لقب الزعيم عليه من قبل قبائل “بني عمارت” و”بني ورياغل” و”اكزناية” باعتباره “الأب الروحي لثورة أكتوبر 1955 الكزنائية، وكذلك لمشاركته في حرب الريف تحت قيادة الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي”.
ومن بين ما ورد في الكتاب من شهادات عن زمن الاستعمار “ذلك اليوم الرهيب في 13 أكتوبر 1955 عندما اقتحمت القوات الفرنسية منزلنا الرئيسي بـ”أرما ن ثارا” (…) بعد ثمان ساعات من الاشتباكات بين المقاتلين وجيش العدو في محيط المنزل (…) كان صوت الرصاص لا ينقطع والطائرات الحربية تطلق قذائفها على قريتنا (…) وبعد مغادرتنا المنزل بحوالي نصف ساعة التفتنا إلى الوراء فتراءى لنا لهيب من النار والدخان متصاعدا من المنزل الذي أشعل فيه العدو النار (…) كنا آخر المغادرين من بين أهالي المداشر لأن والدي كان مصرا على البقاء حتى آخر لحظة، وهذا التصرف من شيم القادة الحقيقيين”.
وفي ختام الكتاب يجدد الصحافي والباحث عبد السلام الزكريتي التأكيد على أن مؤلفه “لا يقدم سوى جزء من الحقيقة، وليس -بالتأكيد- كلها، التي استعرضت فصولها وتفاصيلها انطلاقا من ذاكرتي مع بعض الاجتهاد في التمحيص وتحري الحقائق”، داعيا “القارئ اللبيب” إلى التعمّق في التأمل في “قضايا التاريخ المعاصر، وخصوصا ما له صلة بالكفاح والنضال والجهاد في سبيل استقلال الوطن واسترداد سيادته”.
كما دعا “الباحثين الشباب في علوم التاريخ” إلى مواصلة جهودهم في “استجلاء الحقائق التاريخية وربطها بسياقها السليم؛ حتى يكون البناء المعرفي مؤسسا على أسس متينة خدمة للوطن، وردا للاعتبار للإنسان الذي ساهم في صنع التاريخ وهمشته الكتابات التاريخية، وانتصارا لقيم المواطنة والارتباط بالهوية”.
من جهته، نبه عبد الإله بسكمار، عن مركز “ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث”، إلى أن “الكثير من المعلومات والحقائق حول جيش التحرير مازالت رهينة أرشيف “فانسان” Vincennes، و”كي دورساي” Quai d’Orsay، والخزانات المغربية العامة والخاصة، للأسف الشديد، حيث لم يتمكن عموم الباحثين المغاربة (من جامعيين وغيرهم) من الاطلاع الوافي إلا على البعض منها”.
ووصف مقدّم الكتاب هذا المؤلف بالهام، فهو “وثيقة تاريخية لا غنى عنها، ومن أبجديات البحث التاريخي الرصين تنويع الوثائق والمظان، لمحاولة الوصول إلى حقائق الأمور، وفي سبيل نظرة شمولية موضوعية لهذه الفترة الحاسمة من تاريخنا الوطني”.
وذكر المقدّم أن أول ما يسترعي الانتباه في هذه الوثيقة أن “كاتبها كان شاهد عيان على الأحداث أو على الأقل بعض منها”. وتابع: “هذا شيء أساسي في البحث التاريخي، وعنصر حيوي على مستوى تحيين الذاكرة الجماعية، شاهد عيان فعلا، أي قريبا من الأحداث والمواقع التي عرفت مخططات جيش التحرير (الشمالي أو ما كان يسمى “جيش تحرير المغرب العربي”)، وأطوار مواجهات هذا الجيش مع قوات الاحتلال الفرنسية التي امتدت من فاتح أكتوبر 1955 إلى متم مارس 1956، رغم أن الكاتب وقتها (…) بالكاد أكمل السابعة عشرة”.
وأضاف: “علاوة على هذا الحضور الفعلي لصاحب الكتاب (…) فقد تحلى أيضا بحسن الإنصات، والبعد النقدي الذي يروم تصحيح الأمور، وإعادتها إلى نصابها، عبر استنطاق الوثائق والمؤلفات والكتابات، التي خاضت لج نفس الموضوع (…) ودون أن ينسى إعطاء كل ذي حق حقه، بمعنى آخر لم تحجب القرابة العائلية الواضحة بين الأب وابنه على أن يتحلى الابن بصدق الرواية، وموضوعيتها ما أمكنه ذلك”، قبل أن يعلق: “هذا لعمري من عزائم الأمور”.